جيش الاحتياط بفرنسا.. «خبرة المسنين» لتعزيز حيوية الشباب

فرنسا تسابق الزمن لتعزيز قدراتها الدفاعية في وقت تتزايد فيه التحديات الأمنية بأوروبا وتتصاعد فيه المخاوف من امتداد حرب أوكرانيا.
وفي خطوة وُصفت بالتاريخية، أعلنت السلطات الفرنسية عن إصلاح جذري في نظام الاحتياط العسكري، يسمح بفتح باب الالتحاق حتى سن الـ70 للوظائف العادية، وإلى غاية الـ72 في المناصب المتخصصة.
ويأتي هذا القرار ضمن تعديلات واسعة على قانون البرمجة العسكرية للفترة الممتدة من 2024 إلى 2030، في سياق دولي متوتر يتسم بالحرب في أوكرانيا، وصعود التهديدات الإرهابية، وتفاقم الهجمات السيبرانية، وفقا للموقع الرسمي للحكومة الفرنسية.
وتعبّر هذه الخطوة عن تحول جذري في الذهنية الفرنسية بعد أكثر من عقدين من إلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية.
تفاصيل
قبل الإصلاح، كان الحد الأقصى لعمر الالتحاق بالاحتياطية العملية لا يتجاوز 65 عاما، لكن التعديلات رفعت السقف إلى 70 عاما للوظائف العادية داخل الاحتياط العملياتي، وكذلك 72 للمناصب المتخصصة، مثل الاستخبارات أو الطب العسكري.
أما الاحتياطية المدنية، فتبقى مفتوحة ابتداءً من سن 17 عاما من دون تحديد عمر أقصى.
وهذه المرونة تسمح باستقطاب شرائح واسعة من المجتمع، سواء من الشباب في بداية مسارهم أو من الكفاءات ذات الخبرة الطويلة.
لماذا كبار السن؟
الهدف المركزي من هذه الخطوة هو مضاعفة عدد قوات الاحتياط، استجابةً لتوجيهات رئاسية بتعزيز القدرات الدفاعية الفرنسية، والاعتماد على الكفاءات.
ويمكّن هذا الأمر الجيش من الاستفادة من خبرات تراكمت على مدى عقود، خصوصا في مجالات: الاستخبارات والتحليل الاستراتيجي، والأمن السيبراني والدفاع الرقمي، واللوجستيات وإدارة الموارد، والطب العسكري والرعاية الصحية، والاتصال والعلاقات الدولية.
وهذه الوظائف لا تتطلب بالضرورة جهدا بدنيا، لكنها تحتاج إلى خبرة عميقة وقرارات دقيقة لا تتوفر إلا لدى المحترفين المخضرمين.
وفي هذا السياق، يقول برونو تيرتراي، الباحث السياسي الفرنسي ونائب مدير في مؤسسة البحث الاستراتيجي، إنه “في ظل الأزمة الأوكرانية، أصبحت حماية الوطن مهمة جماعية لا تقتصر على الفئات التقليدية الزاخرة بالشجاعة، بل تمتد لأولئك الذين يحملون خبرة عميقة وثقافة دفاعية لا غنى عنها”.
ويوضح تيرتراي، في حديث لـ”العين الإخبارية”، أن هذا التعديل، الذي يسمح بالالتحاق حتى سن 72، ينم عن إدراك متأخر لكنه ضروري للقيمة المدنية-العسكرية المشتركة في المجتمع، ويشكل خطوة ذكية لتعزيز “صوامع الاحتياطي” بقدرات احترافية نادرة.
وأكد أن “تجربة الشباب وحدها لا تكفي، فالمعركة الحديثة تتجه إلى تخصصات تقنية متقدمة مثل الاستخبارات الإلكترونية، الطيران المسير للطائرات بدون طيار (درون) ، واللوجستيات، حيث يضفي المتقدمون في العمر ثقلا معرفيا لا يعوض”.
وتابع أن “القوة الداعمة تكمن بالتنوع البشري بضم كوادر من مختلف الأجيال، يمكن للدفاع الفرنسي أن يعكس تنوع المجتمع وقوته المدنية”.
وأشار إلى أن “الرد على الأزمة الأوكرانية يتطلب منا بناء جسر بين الدولة والمجتمع”، موضحا أن رفع الحد الأقصى للعمر هو تجسيد عملي لهذا الجسر، فالمخاطر المعاصرة لا تلغي الخبرة، بل تفرض استثمارها.
نتائج
ويرى مراقبون أن التغيير لا يقتصر على زيادة العدد، بل يعزز التنوع النوعي داخل الاحتياط العسكري. فالمتقاعدون وأصحاب الخبرات يساهمون في الأدوار المتخصصة، مما يتيح تحرير العناصر الأصغر سناً للقيام بالمهام الميدانية الشاقة.
وبالنسبة للقيادات العسكرية، تمثل هذه الخطوة مرونة أكبر في إدارة الموارد البشرية، وتسمح بتوزيع المهمات وفقاً للكفاءات والقدرات لا العمر فقط.
ومن بين أبرز المكاسب الاستراتيجية: نقل الخبرات بين الأجيال داخل القوات المسلحة، وتعزيز الرابط بين الجيش والمجتمع المدني، ورفع قدرة فرنسا على الصمود أمام أزمات متزامنة ومتعددة، وتحسين استغلال الموارد البشرية والمالية المتاحة.
استثمار وتحديات
الإصلاح يتماشى مع الطفرة في الميزانية الدفاعية الفرنسية والتي سترتفع من 43,9 مليار يورو في 2023 إلى 69 مليار يورو في 2030، أي بزيادة سنوية تتراوح بين 3 و4 مليارات.
وهذا التمويل سيتيح تحسين ظروف خدمة الاحتياط وتوسيع شبكته بما يشمل مختلف الأعمار.
وبهذا الإصلاح، تسعى فرنسا إلى تحديث بنيتها الدفاعية بما يلائم طبيعة التهديدات الحديثة، حيث لم تعد القوة العسكرية مرهونة فقط بالشباب والقوة البدنية، بل أيضاً بقدرات العقل والخبرة.
وإجمالا، يتفق خبراء على أن فتح المجال أمام المتقدمين في العمر يمثل رسالة واضحة: الدفاع عن الوطن مهمة جماعية لا يحدها زمن.
وبقرار سن الالتحاق بالاحتياط العسكري حتى 72 عاماً، تجمع فرنسا بين حيوية الشباب وحكمة الكبار، لتبني منظومة دفاعية أكثر مرونة واستعدادا للتحديات الجيوسياسية المقبلة.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز